فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويجوز أن يكون ذلك على التنويع، ويكون قد حَذف الموصولات لفَهْم المعنى وهو مذهب الكوفيين كما تقدم، والتقدير: فالذين هاجروا والذين أخْرِجوا، والذين قاتلوا: فيكون الخبر بقوله: {لأُكَفِّرَنَّ} عمن اتصف بواحدةٍ من هذه. وقرأ جمهورُ السبعة: {وَقَاتَلُوا وَقُتِلوا} ببناء للفاعلِ من المفاعَلةِ، والثاني للمفعول، وهي قراءة واضحة. وابنُ عامرٍ، وابن كثيرٍ كذلك، إلا أنهما شدَّدَا التاء من {قُتلوا} للتكثير، وحمزة والكسائي بعكس هذا، ببناء الأولِ للمفعول، والثاني للفاعلِ، وتوجيه هذه القراءة بأحدِ معنيينِ:
الأول: أنّ الواو لا تقتضي الترتيب، كقوله: {واسجدي واركعي} [آل عمران: 43] فلذلك قدم معها ما هو متأخرٌ عنها في المعنى، هذا إن حَمَلْنا ذلك على اتحاد الأشخاصِ الذِينَ صدر منهم هذانِ الفعلانِ.
الثاني: أن تحمل ذلك على التوزيع، أي: منهم مَنْ قُتِلَ، ومنهم مِنْ قاتل كقولهم: قُتِلْنا ورَبِّ الكعبة إذا ظهرت أماراتُ القتلِ فيهم وهذه الآيةُ في المعنى كقوله: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146] والخلافُ في هذه كالخلافِ في قوله: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111] والتوجيهُ هناك كالتوجيهِ هنا. وقرأ عمر بن عبد العزيز {وقَتَلوا وقُتِلوا}- ببناء الأولِ للفاعل، والثاني للمفعول- من فعل ثلاثيًا، وهي كقراءة الجماعة، وقرأ محارب بن دثار: {وقَتَلوا وقَاتَلُوا}- ببنائهما للفاعل- وقرأ طلحة بن مُصرِّف: وقُتِّلوا وقاتلوا، كقراءة حمزة والكسائي، إلا أنه شدد التاء، والتخريج كتخريج قراءتهما. ونقل أبو حيّان- عن الحسنِ وأبي رجاء- قاتلوا وقتّلوا، بتشديد التاءِ من {قُتّلوا} وهذه هي قراءة ابن كثيرٍ وابن عامرٍ- كما تقدم- وكأنه لم يعرف أنها قراءتهما.
قوله: {ثوابًا} في نصبه ثمانية أوجهٍ:
أحدها: أنه نصب على المصدر المؤكد؛ لأن معنى الجملةِ قبله تقتضيه، والتقدير: لأثيبَنَّهم إثابة أو تثويبًا، فوضع {ثَوَابًا} موضع أحد هذينِ المصدرينِ؛ لأن الثوابَ- في الأصل- اسم لما يُثَابُ به، كالعطاء- اسم لما يُعْطَى- ثم قد يقعان موضع المصدر، وهو نظير قوله: {صُنْعَ الله} [النمل: 88] و{وَعْدَ الله} [القصص: 13] في كونهما مؤكدينِ.
ثانيهما: أن يكون حالًا من {جَنَّاتٍ} أي: مثابًا بها- وجاز ذلك وإن كانت نكرة؛ لتخصصها بالصفة.
ثالثها: أنها حالٌ من ضمير المفعول، أي: مثابين.
رابعها: أنه حالٌ من الضمير في {تَجْرِي} العائد على {جَنَّات} وخصَّص أبو البقاء كونه حالًا بجَعْله بمعنى الشيء المُثَاب بِهِ، قال: وقد يقع بمعنى الشيء المثاب به، كقولك: هذا الدرهم ثوابك، فعلى هذا يجوز أن يكون حالًا من ضمير الجنّاتِ، أي: مثابًا بها، ويجوز أن يكون حالًا من ضمير المفعول به في {لأدْخِلَنَّهُم}.
خامسها: نصبه بفعل محذوف، أي: نعطيهم ثوابًا.
سادسها: أنه بدل من {جَنَّاتٍ} وقالوا: على تضمين {لأدْخِلَنَّهُمْ} لأعْطِيَنَّهُمْ، لما رأوا أنَّ الثوابَ لا يصح أن ينسب إليه الدخولُ فيه، احتاجوا إلى ذلك.
ولقائل أن يقول: جعل الثواب ظرفًا لهم، مبالغة، كما قيل في قوله: {تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9].
سابعها: أنه نصب على التمييز، وهو مذهب الفرّاء.
ثامنها: أنه منصوبٌ على القطعِ، وهو مذهبُ الكسائيّ، إلا أن مكِّيًا لما نقل هذا عن الكسائي فَسَّر القطع بكونه على الحالِ، وعلى الجملة فهذانِ وجهانِ غريبانِ.
وقوله: {مِّن عِندِ الله} صفةٌ له، وهذا يدل على كون ذلك الثَّوابِ في غايةِ الشرف، كقول السلطانِ العظيم: أخلع عليك خلعة من عندِي.
قوله: {والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب} الأحسن أن يرتفع {حُسْنُ الثواب} على الفاعلية بالظرف قبله؛ لاعتماده على المبتدأ قَبْله، والتقدير: والله استقر عنده حُسْنُ الثَّوابِ.
ويجوز أن يكون مبتدأ، والظرف قبله خبره، والجملة خبرُ الأولِ.
وإنما كان الوجه الأول أحسنَ؛ لأنّ فيه الأخبار بمفرد- وهو الأصل- بخلاف الثّانِي، فإنَّ الأخبار فيه بجملة وهذا تأكيد لكونه ذلك الثوابِ في غايةِ الشرفِ. اهـ. بتصرف.
قال في الأمثل:
ويستفاد من هذه الآية أن الإِنسأن لابدّ أن يتطهّر من أدران الذنوب في ظل العمل الصالح أوّلا، ثمّ يدخل في رحاب القرب الرّباني والنعيم يالإِلهي، لأنّه سبحانه قال أوّلا: {لأُكفّرن عنهم سيئاتهم} ثمّ قال: {لأدخلنّهم جنّات}.
وبعبارة أخرى: أنّ الجنّة مقام المتطهرين، ولا طريق لمن لم يتطهر إِليها.
القيّمة المعنويّة للرّجل والمرأة:
إِن الآية الحاضرة- كبقية الآيات القرآنية الأخرى- تساوي بين الرجل والمرأة عند الله، وفي مسألة الوصول إِلى الدرجات المعنوية، ولا تفرق بينهما بسبب اختلافهما في الجنس، ولا تعتبر الفروق العضوية وما يلحقها من الفروق يفي المسؤوليات الاجتماعية دليلا على اختلافهما في إِمكانية الحصول على درجات التكامل الإِنساني وبلوغهما للمقامات المعنوية الرفيعة، بل تعتبرهما في مستوى واحد- من هذه الجهة- ولذلك ذكرتهما معًا.
إِن اختلافهما في التكاليف وتوزيع المسؤوليات يشبه إِلى حد كبير الاختلاف الذي تقتضيه مسألة النظام والانضباط حيث يختار شخص كرئيس، وآخر كمعاون ومساعد، فإِنّه ينبغي أن يكون الرئيس أكثر حنكة وأوسع علمًا، وأكثر تجربة في مجال عمله، ولكن هذا التفاوت والاختلاف في مراتب المسؤولية وسلم الوظائف لا يكون دليلا مطلقًا على أن شخصية الرئيس وقيمته الوجودية أكثرمن شخصية معاونيه ومساعديه، وقيمتهم الوجودية.
إِنّ القرآن الكريم يقول بصراحة: {ومن عمل صالحًا من ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فأُولئك يدخلون الجنّة يرزقون فيها بغير حساب}.
ويقول في آية أخرى: {من عمل صالحًا من ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}.
هذه الآيات وغيرها من الآيات القرآنية الأخرى نزلت في عصر كان المجتمع البشري فيه يشك في إِنسانية جنس المرأة أساسًا، بل ويعتقد أنها كائن ملعون، وأنها منبع كل إِثم وانحراف وموت وفساد.
لقد كان الكثير من الشعوب الماضية تذهب في نظرتها السلبية تجاه المرأة إِلى درجة أنها تعتقد أحيانًا إِنّ عبادة المرأة وما تقدمه في سبيل الله لا تقبل، وكان الكثير من اليونانيين يعتقدون أنّ المرأة كائن نجس وشرير وأنّها من عمل الشّيطان، وكان الرّوم وبعض اليونانيين يعتقدون أنّ المرأة ليست ذات روح إِنسانية أساسًا، وأن الرجل وحده هو الذي يحمل بين جنبيه مثل هذه الروح دون غيره.
والملفت للنظر أن العلماء المسيحيين في أسبانيا كانوا يبحثون- حتى إِلى الآونة الأخيرة- في أن المرأة هل تملك- مثل الرجل- روحًا إِنسانية أم لا؟ وأن روحها هل تخلد بعد الموت أم لا؟
وقد توصلوا- بعد مداولات طويلة- إِلى أن للمرأة روحًا برزخية، وهي نوع متوسط بين الروح الإِنسانية والروح الحيوانية، وأنه ليس هناك روح خالدة- بين أرواح النساء- إِلاّ روح مريم.
من هنا يتضح مدى ابتعاد بعض المغفلين عن الحقيقة حيث يتهمون الإسلام أنه دين الرجال دون النساء.
إِنّ بعض الاختلاف في نوع المسؤوليات الاجتماعية الذي يقتضيه اختلافات في التركيب العضوي والعاطفي لدى الرجل والمرأة لا يضرّ بالمرأة وقيمتها المعنوية أساسًا، ولهذا لا يختلف الرجل والمرأة من هذه الجهة، فأبواب السعادة والتكامل الإِنساني مفتوحة في وجهيهما كليهما على السواء كما ذكرنا ذلك عند البحث في قوله تعالى: {بعضكم من بعض}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ}.
كيف لا يستجيب لهم وهو الذي لَقَّنَهُم الدعاء، وهو الذي ضمن لهم الإجابة، ووَعْدُه جميل الثواب على الدعاء زائدٌ على ما يدعون لأَجْل الحوائج. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ...} الآية.
ولْنر اللفتة الجميلة في الاستجابة: {فاستجاب لهم ربهم أنّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض} لقد كانوا يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض. ويخشون الدخول إلى النار. ودعوا الله بغفران الذنوب وتكفير السيئات. ودعوا الله أن يأتيهم ويعطيهم ما وعدهم به على ألسنة الرسل.
لم يقل الحق سبحانه: استجبت لكم، لكنه جعل الاستجابة هي قبول العمل فقال: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} فليست الحكاية كلاما يقال، إنما يريد الله أن تدخل هذه المسائل في حيز التطبيق والنزوع العملي؛ فالمسألة ليست بالتمني فقط، فقد وضع سبحانه الشرط الواضح وهو العمل، فمن يريد استجابة الحق فلابد له من العمل. إن التفكر في بديع صنع الله لا يغني عن العمل؛ لأن الحق سبحانه يريد التفكر فيه وأنت تعمل في أسبابه. فأسباب الحق لا تشغلك عنه {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195].
فالذين هاجروا من بلادهم ومن أهلهم ومن أوطانهم ومن أحبابهم، دون إكراه فهجرتهم هذه هي نزع وجودي، وانتقال من مكان إلى مكان جديد وكان ذلك في سبيل الله أي، فالذين هاجروا وخرجوا بجزء من إرادتهم، وكذلك الذين أخرجوا من ديارهم، وقاتلوا في سبيل الله وتحملوا الإيذاء وقُتلوا- هؤلاء- ينالون التكفير عن السيئات ويدخلون الجنة.
لقد جاء الحق هنا بالعملية التي تتضح فيها الأسوة الإيمانية؛ لأن الإنسان ينشغل بماله وأهله ووطنه وباستبقاء الحياة، فإذا ما ضحى الإنسان بهذا كله في سبيل الثبات على كلمة الله أولا، وإعلاء كلمة الله ونشرها ثانيا. فالمؤمن من هؤلاء لم يكتف بنفسه بل جاهد في سبيل الله لتنتقل الحياة بحلاوتها إلى غيره، وبذلك يكون قد أحب لغيره ما أحبه لنفسه.
نخرج من كل هذا برؤية واضحة هي أن الفكر وحده لا يكفي وإذا قال واحد: إن إيماني حسن فلا تأخذني بالمسائل الشكلية، نرد عليه قائلين: إن الله ليس في حاجة إلى ذلك، ولكنه يطلب منك أن تعمر الكون بحركتك، وأبرك الحركات وأفضلها أن ترسخ منهج الله في الأرض؛ لأنك إن رسخت منهج الله في الأرض، أدمت للوجود جماله. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الألباب}.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَةِ الأولى بِمَا قَبْلَهَا: إِنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ أَفَاعِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَغَيْرِهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْمُجَاهِدِينَ لَوْ كَانُوا يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَكَفُّوا مِنْ غُرُورِهِمْ، وَلَعَلِمُوا أنه يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ تعالى أَنْ يُرْسِلَ إِلَى النَّاسِ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الْآيَةَ مُطْلَقَةً مُوَجَّهَةً إِلَى أُولِي الألباب لِيُطْلِقَ النَّظَرَ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ جَذْبُ الْقُلُوبِ، وَالْأَرْوَاحِ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، فَلَمَّا طَالَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ، وَالْجَوَابِ عَنْ شُبَهَاتِ الْمُبْطِلِينَ عَادَ إِلَى إِنَارَةِ الْقُلُوبِ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْإِلَهِيَّةِ، وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْجَلَالِ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ. اهـ.
أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي وَجْهِ اتِّصَالِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا قَبْلَهَا عِنْدَ الِابْتِدَاءِ بِتَفْسِيرِهَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُفْتَتَحَةٌ بِذِكْرِ الْكِتَابِ وَشُئُونِ النَّاسِ فِيهِ، وَمُخْتَتَمَةٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَدُعَائِهِ.
وَقَدْ ذَكَرُوا سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى عَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِالْحَوَادِثِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَتْ قُرَيْشٌ الْيَهُودَ، فَقَالُوا: بِمَ جَاءَكُمْ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ؟ فَقَالُوا: عَصَاهُ، وَيَدُهُ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ، وَأَتَوُا النَّصَارَى، فَقَالُوا: كَيْفَ كَانَ عِيسَى؟ قَالُوا: كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَدَعَا رَبَّهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِآيَاتٍ لِأُولِي الألباب فَلْيَتَفَكَّرُوا فِيهَا. انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. وَأَنْتَ لَا تَرَى الْمُنَاسَبَةَ قَوِيَّةً بَيْنَ الِاقْتِرَاحِ وَبَيْنَ الْآيَةِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُرَادَ الْقُرْآنِ الِاسْتِدْلَالُ بِآيَاتِ اللهِ فِي الْكَائِنَاتِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ دُونَ الْخَوَارِقِ، وَالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ الرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُقْتَرِحِينَ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تعالى بِوَحْدَةِ النِّظَامِ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى رَحْمَتِهِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَرَافِقِ لِلْعِبَادِ، فَلْيُرَاجَعْ فِي تَفْسِيرِ آية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} [2: 164] إلخ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: السَّمَاوَاتُ: مَاعَلَاكَ مِمَّا تَرَاهُ فَوْقَكَ، وَالْأَرْضُ: مَا تَعِيشُ عَلَيْهِ، وَالْخَلْقُ: التَّقْدِيرُ وَالتَّرْتِيبُ لَا الْإِيجَادُ مِنَ الْعَدَمِ، كَمَا اصْطُلِحَ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، فَذَلِكَ لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى النِّظَامِ وَالْإِتْقَانِ وَهُوَ مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسِ الأمر، وَبَعْدَ مَا ذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَفَتَ الْعُقُولَ إِلَى أَمْرٍ مِمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ فَإِنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ قَائِمٌ بِنِظَامٍ فِي طُولِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَقَصَرِهِمَا، وَتَعَاقُبِهِمَا، وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُهُ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أنه حَادِثٌ مِنْ حَرَكَةِ الشَّمْسِ، أَوْ مَا يَعْتَقِدُونَ الْآنَ مِنْ أَنَّ سَبَبَهُ حَرَكَةُ الْأَرْضِ تَحْتَ الشَّمْسِ، وَمِنَ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ مَا نَرَاهُ فِي أَجْسَامِنَا وَعُقُولِنَا مِنْ تَأْثِيرِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ، وَرُطُوبَةِ اللَّيْلِ، وَكَذَا فِي تَرْبِيَةِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ اللَّيْلُ سَرْمَدًا وَالنَّهَارُ سَرْمَدًا لَفَاتَتْ.
وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ وَجَوْدَةِ فِكْرِهِ، فَأَمَّا عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ فَإِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مِنْ نِظَامِهَا مَا يُدْهِشُ الْعَقْلَ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَحَسْبُهُمْ هَذِهِ الْمَنَاظِرُ الْبَدِيعَةُ، وَالْأَجْرَامُ الرَّفِيعَةُ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحُسْنِ، وَالرَّوْعَةِ، وَخَصَّ أُولِي الألباب بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ أُولُو أَلْبَابٍ؛ لِأَنَّ مِنَ اللُّبِّ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، كَلُبِّ الْجَوْزِ وَنَحْوِهِ إِذَا كَانَ عَفِنًا، وَكَذَا تَفْسَدُ أَلْبَابُ بَعْضِ النَّاسِ وَتَعْفَنُ، فَهِيَ لَا تَهْتَدِي إِلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهِمَا.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْعَقْلُ لُبًّا؛ لِأَنَّ اللُّبَّ هُوَ مَحَلُّ الْحَيَاةِ مِنَ الشَّيْءِ، وَخَاصَّتُهُ وَفَائِدَتُهُ، وَإِنَّمَا حَيَاةُ الْإِنْسَانِ الْخَاصَّةُ بِهِ هِيَ حَيَاتُهُ الْعَقْلِيَّةُ، وَكُلُّ عَقْلٍ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الِاسْتِفَادَةِ مِنَ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى قُدْرَةِ اللهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَنْظُرُ، وَلَا يَتَفَكَّرُ، وَإِنَّمَا الْعَقْلُ الَّذِي يَنْظُرُ، وَيَسْتَفِيدُ، وَيَهْتَدِي هُوَ الَّذِي وَصَفَ أَصْحَابَهُ بِقوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} وَالذِّكْرُ فِي الْآيَةِ عَلَى عُمُومِهِ لَا يُخَصُّ بِالصَّلَاةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ ذِكْرُ الْقُلُوبِ، وَهُوَ إِحْضَارُ اللهِ تعالى فِي النَّفْسِ وَتَذَكُّرُ حُكْمِهِ، وَفَضْلِهِ، وَنِعَمِهِ فِي حَالِ الْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ، وَالِاضْطِجَاعِ، وَهَذِهِ الْحَالَاتُ الثَّلَاثُ الَّتِي لَا يَخْلُو الْعَبْدُ عَنْهَا تَكُونُ فِيهَا السَّمَاوَاتُ، وَالْأَرْضُ مَعَهُ لَا يَتَفَارَقَانِ، وَالْآيَاتُ الْإِلَهِيَّةُ لَا تَظْهَرُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا لأهل الذِّكْرِ، فَكَأَيِّنْ مِنْ عَالَمٍ يَقْضِي لَيْلَهُ فِي رَصْدِ الْكَوَاكِبِ فَيَعْرِفُ مِنْهَا مَا لَا يَعْرِفُ النَّاسُ، وَيَعْرِفُ مِنْ نِظَامِهَا، وَسُنَنِهَا، وَشَرَائِعِهَا مَا لَا يَعْرِفُ النَّاسُ، وَهُوَ يَتَلَذَّذُ بِذَلِكَ الْعِلْمِ وَلَكِنَّهُ مَعَ هَذَا لَا تَظْهَرُ لَهُ هَذِهِ الْآيَاتُ؛ لِأَنَّهُ مُنْصَرِفٌ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ.